قالت العرب قديماً( كل امرأة بأبيها معجبة) .. تذكرت هذا المثل وأنا أطالع صور أيامي الأولى..بين ألعابي وهداياه المحببة إلى نفسي , كان يقرأني دون أن اكلمه ويفك شفرة نظراتي له دون أن اهمس له بشيء, مازال دفء كفيه لذيذاً وهو يربت على رأسي بخفة ليلاعب شعري,, فكنت ببراءتي الطفولية أراقبه وهو يداعب سيكارة الروثمن الطويلة حارقاً آهاته فيها, ناثراً رمادها في منفضة السكائر الفضية التي لا تبرح مكانها قبالته.وعندما تحال السيكارة إلى رماد تكون مشكلته قد أصبحت رماداً أيضا.. في المرة الأولى التي علمتني فيها أمي كيف أطهو الطعام لاحت مني التفاته أليه وهو يراقبني بهدوء ومآقيه مغرورقة بدموع تبخل الانحدار.. أفزعتني تلك النظرة فتركت الدرس وهربت إليه وغرقت بحضنه الدافئ.. أخاف عليك ممن ستطبخين له الطعام .. هل سيحبك كما أنا.. سألني بصوت متهدج.. لن أتزوج بأحد لا يشبهك.. أجبته بخجل ودموع..
في المساءات البغدادية ووسط الحديقة التي أحاطها القرنفل والجوري والياسمين كان يهيم مع أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب تاركاً لروحه التحليق عالياً في سماء الفن الجميل.. ورغم حبي أيضا لتلك الأغاني إلا أنها طالما أشعرتني بالغيرة والحنق كونها تأخذه مني تلك الساعات الغارقة بالنعاس.. في صباحاته الباكرة تزدهي بدله الأنيقات بطوله الفارع وعطوره الفاخرة ولمعة شعره المسرٌح للوراء كممثلي هوليود أو مصر الستينات.. احمد رمزي أو رشدي اباضة , كنت أغمض عينيّ بتعمد طفولي واضح رافعة رأسي للأعلى منتظرة كلماته الأثيرة.. (ملعونة تنتظرين أبوسك.. راح أعظك اليوم..) عندها أطلق ضحكتي من القلب..اعتدت أن اتخذ كرسياً صغيراً بالقرب منه وهو غارق في عالم أغنياته, وأنا أطالع مجلاتي التي أحب أن اقتنيها, وهو من كان يجلبها لي حالما يصدر أي عدد جديد منها.. أطالعها بتلذذ وسط همهمات أمي وهي تردد..( لو تطالعي كتبك المدرسية مو أحسن من مجلاتك الماسخة!!) اتركيها.. يجيبها أبي بصوته العذب.. راح تشوفيها بعدين .. يجوز أيصير عدها مجلة..
. كم كنت نافذ البصيرة يا أبي.. اليوم وبعد أن أوقد شمعة غيابك عني اهدي إليك كلماتي الأولى في مجلتي التي وعدتك بها يوم أن وضعت أول زهرة على ذكرى غيابك.. نانار آلهة القمر ستضئ ليالي بعدي الطويل عنك.
كل امرأة بأبيها معجبة
د. اسيل العامري